رحلة في مسار المعيش اليومي في النص المسرحي” مقاطع من الحياة” للأستاذة الجامعية و المخرجة والباحثة المغربية زهرة مكاش - أكادير انفو - Agadir info

رحلة في مسار المعيش اليومي في النص المسرحي” مقاطع من الحياة” للأستاذة الجامعية و المخرجة والباحثة المغربية زهرة مكاش

8 نوفمبر 2015
بقلم:
1 تعليق

12195920_1070957496269947_4296697209061667120_n

صدر للكاتبة والمخرجة والباحثة المغربية زهرة مكاش نص مسرحي عن دار نشر Edilivre الفرنسي. وهو عبارة عن رحلة في مسار المعيش اليومي عبر مشاهد مسرحية مقتطعة عن حياة الناس اليومية، تتناول فيه الكاتبة مجموعة علاقات عاطفية لا تخلو من الفكاهة والعبث والحزن.

يحكي النص قصصا مختلفة تلتقي وتتقاطع في بعض همومها، فتبدو كما لو انها قصة واحدة لأشخاص مختلفين في فشلهم العاطفي، يلجئون الى الكلام للدفاع عن أنفسهم بمجرد ما يتحدثون عن حياتهم العاطفية وصعوباتها. يتألف النص من اربعة مقاطع، لكل مقطع شخصياته وحالاته وزمكانه المختلف.

توجد في المقطع الأول شخصية الصوت، والأرملة، والمرأة المخدوعة، والفتاة المغتصبة، والرجل. وتقع احداثه داخل اربعة خزائن مجهزة بنوافذ صغيرة مع مرايا وستائر (اثنين بيضاء واثنين حمراء). وداخل كل خزانة تضاء شخصية من الشخصيات بإنارة داخلية، تفرض على المتفرج نوعا من العلاقة الحميمية.

ويحتوي المقطع الثاني، على شخصية المرأة المخدوعة، والجارة، والصوت، داخل نفس المناخ الحميمي تقريبا. ويتألف ديكور المشهد من بيتين قريبين من بعضمهما البعض، تكون نافذة بيت الجارة ذات ستارة حمراء، في حين أن ستارة نافذة المرأة المخدوعة بيضاء، وفي كلا النافذتين هنالك مرآة، نرى من خلالهما اللعب وانعكاس خيال المرأتين فيهما.

في المقطع الثالث، نرى امرأة ورجلا رقم واحد، في مشهد خارجي، الوقت ليل، المكان شارع، امرأة تتبع رجلا خارجا للتو من المقهى. اما المقطع الرابع والأخير، امرأة ورجل، نشاهد في بدايته الرجل وحيدا، يبحث عن شخص ما، تعتريه حالة من القلق، ثم يخرج هاتفه الجوال ويطلب رقما، ولكن لا احد يرد عليه، فيبدأ بالكلام لوحده.

في هذا النص هناك الكثير من الألم والعنف الذي تتعرض له الشخصيات فتقوم بتصويره من خلال بوحها العلني، فترسم لنا مسارات متعددة ومختلفة لحياة يومية. “قصص عادية لحياة عادية”، مثلما تقول المؤلفة زهرة مكاش، مليئة بالخيانة، والاغتصاب، والعار، والرغبة، والقسوة، والحرية. كل هذه العناصر تجتمع لكي تغذي فضاء النص وتذهب به من الخاص إلى العام من خلال لغة يفرضها المسرح على القارئ او المتفرج.

يقول الدراماتورج الألماني شيلر، أن “المسرح مؤسسة اخلاقية”، نعم، ان المسرح النقي هو اخلاقي، وهو في هذا المعنى، لم يقل ابدا كيف علينا ان نفكر، ولم يفرض علينا اطروحة معينة، بل يوحي ويشير فقط، وأحيانا، يناقش، ويكتفي بتشجيعنا على ان نكونّ ارآئنا بأنفسنا، ويحرص على عدم التأكيد.

وهذا ما يفعله نص (مقاطع من الحياة) لـ”زهرة مكاش”، إنه لا يفرض علينا رسائله، بقدر ما يحاول من خلال حبكته الدرامية التي تعتمد في شكلها ومضمونها على التشظي، تسليط الضوء على حياة مليئة بالمفاجئات التي نتعرض لها في حياتنا اليومية المعاشة والمتخيلة، مصحوبة بكمية هائلة من الضحك المر، والحزن والفكاهة والعاطفة المثيرة للشفقة احيانا.

يتحقق سرد الوقائع في هذا النص بشكل تتابعي، ولكن على هيئة شظايا متناثرة في ازمنة وأمكنة مختلفة، خارجية وداخلية، لكي تتضح في النهاية شيئا فشيئا وعلى دفعات غير متسلسلة بالضرورة، انطلاقا من الشخصيات وحالاتها الحالية التي تحاول ان تعيد تشكيل حياتها امامنا، من خلال الكلمات والصور، والأصوات، والحالات، والمواقف، والحركات، والنوافذ والمرايا وانعكاس خيالاتها فيها، ومن خلال الليل ايضا، وعتمة شوارع المدن، وقلب المعادلة الاجتماعية التي اعتدنا عليها، في مشهد المرأة التي تتبع الرجل وليس العكس، على سبيل المثال.

إن هذه المقاطع المتشظية التي تستحضرها المؤلفة، لا تشير الى منابع الألم، والحاجة لادراك مآسيها في المجال الاجتماعي فحسب، وإنما الى التراجيدية التي تتجسد فيها عدد كبير من الحالات التي ليست بالضرورة متشابهة وتخضع لنفس المنطق. ففي كل مقطع من المقاطع، تتناول زهرة مكاش حياة كل فرد فيها انطلاقا من اعباء ذكرياته وسجونه الذاتية والاجتماعية التي تتقاطع في كلية اللوحات المسرحية الاربعة، في نصوص درامية قصيرة مكثفة، تتحدث فيها عن لحظات كانوا ومازالوا يعيشونها بشكل مشترك ومتفرق في آن واحد.

تقول شخصية الصوت في بداية المسرحية بما معناه: انني لم اعاني في طفولتي كثيرا بسبب العالم، ولا بسبب الألم، وإنما بسبب طفولتي، وشبابي المفقود والمغتصب (…) وهذا ما يقتلني. اجزاء من حياتي تأكل بعضها البعض، هنا في فمي، الذي تتعثر فيه الكلمات، وتطفوا فيه الخيالات، والصور المتلاحقة، وأنا متأكد اذ قمنا بترتيبها قليلا سوف تكون قصة واحدة لبعضنا، ولكم، ولي، ولنا. وهو يوجه كلامه الى الارملة، والمرأة المخدوعة، والفتاة المغتصبة، والرجل، الموجودون معه على المسرح ولكن كل في خزانته.

إن السبب من وراء سرد هذه الشخصيات لما وقع لها من اغتصاب وقسوة ومعاملة سيئة غير عادلة، هو البحث عن الكيف واللماذا الذي جعلها تصل إلى هذا الحضيض العظيم، إنهم يتساءلون مع الكثير من علامات الاستفهام التي يتبادلونها من خلال تقاسم آلام الروح ووجع السنين، مستخدمين عند الحديث، مثلا: كلمة أنت، وهي، وهو، وفي بعض الاحيان، أنتم الذين هم نحن، وهذا بحد ذاته ما يمنح النص لهجة خاصة وأسلوبا ونظرة نادرتين ودقيقتين في التعبير.

فالشخصيات حينما تتحدث، لا تطلب الرحمة او تستجدي الشفقة بقدر ما تريد اظهار الحقائق والإعلان عن غضبها وحنقها، فهي قد تعرضت لشتى أنواع العذاب، وتمتلك جوهر الحقيقة التي يكاد ان يغصوا في كلماتها، فهي هنا ملء أفواههم، ولابد أن تخرج، ولهذا وفي لحظة من اللحظات تبدأ جميع الشخصيات تلهج بنفس الكلمات تقريبا، وكأنها جوقة تراجيدية معاصرة، يصفون من خلالها جحيم سجونهم الذاتية والقضبان الحديدية التي وضعهم خلف جحيمها الآخرون، الذين هم بالمقابل سجناء كم هائل من التقاليد والعقد الاجتماعية التي لا يريدون التحرر منها. الجميع: انني اصرخ. الارملة: انني اضحك. الجميع: انني اضحك، الارملة: انني ابكي. الجميع: انني ابكي. الارملة: أنني ابكي، يردد الجميع نفس الكلام. الارملة، لم اعد اقوى على الحركة. الجميع: يردد نفس المفردات. الارملة: انني أموت. الجميع: انني أموت. الارملة: لقد قتلني. الجميع: لقد قتلني.

وهكذا يستمرون بترديد نفس الكلمات، وكأن الموت المبكر لهم هو النتيجة الحتمية التي يصعب التخلص من كابوسيته. وهذا الاستعمال تكرره المؤلفة في اكثر من مكان ومرة في النص، اما على شكل جوقة ام انها تجمع صوتين في كلام واحد، أي تجعل شخصيتين تكادان ان تشتركا في نفس الهم والوجع، الارملة والفتاة المغتصبة معا: انك تخنقني، ارجوك، اتوسل اليك ان تتوقف.. انك تخنقني، كم من يد تمتلك (…). لدرجة انها تختم بهذا الاسلوب نصها. النساء تخاطب الرجل، في اخر جملة في المسرحية: لماذا تحدق بنا ؟ (صمت) ألم ترّ في حياتك امرأة ؟.

يمكننا أن نلاحظ من خلال ذلك أيضا، أن الكلام على طول وعرض النص هو الذي يتكفل بمهمة نقل وحمل المعلومات التي تريد المؤلفة توصيلها. ولكن هذه الوظيفية بقدر ما هي فعالة، بقدر ما تبدو ايضا إضافية، وتجعل الكلام يصبح في المقام الأول هو الفعل والحدث في آن واحد، ويعطيه قدرة وقوة على التمرير والانتقال من موقف لآخر، ومن حالة إلى أخرى. مثلما يمكننا أن نلاحظ ايضا، الغياب ليس الكلي وانما الجزئي للجمل والشروحات التي اعتاد المؤلفون تضميتها لنصوصهم، واكتفاء زهر مكاش بمضمون الكلمات (الكلام) في تجسيد وتحقيق الفعل، ووصف الحدث، التي من خلالها نرى بعض الصور، والحركات المناطة بالشخصسات وتعبيراتها، وتحركاتها، وهذا بحد ذاته ما يمنح الممثل أو القارئ العديد من الخيارات في كل لحظة من اللحظات.

هذا بالاضافة الى استخدامها لأسلوب تداخل الامكنة وخلط الازمنة والتلاعب في التصور الذي اعتاد عليه القارئ، الذي يمكن ان يتعارض مع الوهم المسرحي المراد خلقه، ولكن في نص “مقاطع من الحياة” يحدث العكس، فبمجرد ما نقبل نحن كقراء او مشاهدين بقانون اللعبة المسرحية وشكلها المفروض من قبل المؤلفة، يمكن أن نحصل عليه بشكل أقوى، ويصبح يشير الى التجربة الجمعية، دون اللجوء ابدا الى وضع بعض النظام في كمية التشظي الكبيرة المستخدمة فيه.

إن الكتابة المسرحية في هذا النص اعتمدت على تكثيف سلسلة من المشاهد القصيرة، لكي تحكي لنا قصة شخصيات اجتمعت هنا، في نفس المكان، يعيشون فيه على مقربة من بعضهم، ومع ذلك لا يرون بعضهم البعض كليا او جزئيا، وكأنهم شخصيات غير مرئية. وهكذا تبقى مصائرهم غير معلنة تقريبا، موجودون هنا ولا يكشف عنهم سوى الضوء المسلط عليهم. ماذا يحدث داخل هؤلاء الناس الذين يشبهوننا تقريبا في كل شيء ؟ ماذا يحدث لهذه الشخصيات التي نتقاطع معها دائما في الشارع كل يوم ؟

حتما ان هناك أشياء كثيرة لم تتوقف عن الوقوع. هذا ما ارادت قوله المؤلفة زهرة مكاش لنا عبر اسلوب مسرحي قد يبدو بسيطا منذ الوهلة الاولى ولكن ما أن نتوغل به ونتمعن في حيثياته، نجده صعبا ويحتاج الى ذكاء وشفافية وجرأة وقدرة على اختراق هذا البسيط الذي اخذ من التشظي شكلا، والمونتاج اسلوبا جوهريا لم يكتف من اجل تحقيق غرضه باللغة فقط، وانما اعتمد الصورة اساسا واسلوبا تكنيكيا فعالا في قيادة الحوار وتوزيعه ورصده لأهم تمفصلات الحياة العاطفية، بطريقة لا تليق الى بالكتاب المتمكنين من فن المسرح وفضاءاته المتعددة.

محمد سيف/باريس

47618_185921138084861_6130617_n 181661_198548526822122_3979954_n 530120_3775019568132_861581686_n

تعليقات الزوّار (1)